وأنا أسير في الشارع وإذا بصوت هادئ يلامس أذنيَّ فالتفتت لارى من هذا, وإذا بجسدي يتهشم وقلبي يعصر قواي ويبعثرها هنا وهناك لتبقي لي بعضا من دموع تائهة في أحضان ذاك القلب الضائع!,
لقد رأيت طفلا غُرس في وجهه الملائكي شيء من التعب والإعياء , يطأ الثرى , حافي القدمين , مجرح الرجلين, يلبس من الثياب ما يقذفه الناس في سلة المهملات , وآثار دماء كانت تنزف من جسده ما زالت عليها , يمد يدا ترجف خوفا من المجهول الذي ينتظرها , يبسط يده متأملا بان يضع أحدهم له جزءا من الفرح والسعادة بدلا من النقود التي يأخذها كل يوم ولم تنجح يوما ان تخط ابتسامة على شفتيه!.
وفجأة امتزج لون الدماء بلون قطرات الماء , رعدت السماء وتشققت , بكت الغيوم بكاءا غزيرا فإذا بقطرات الماء تتساقط شيئا فشيئا لتصطدم بملابسه البالية , وتحطم قوته وتجعله ينصرف بعيدا يلملم نفسه , ويحضن جسده ليلاقي بعضا من الدفء والامان لكنه فشل فقد تغلب البرد القارس على قواه , واستغل ضعفه وتسلل إلى جسده, وجرت رعشة قوية داخله ولكنه رغم كل المصاعب والمشقات شقّ طريقه من جديد وبحث عن أنفاسه الضائعة ولملمها ثم نهض حاملا عزيمته بيده , ومشى وقد أثقلته الهموم , ورجع ومد يده يسأل من يحن عليه ويلين قلبه عندما يراه ولكن...
لم يعد يحتمل, ملابسه مبللة , وجهه ملطخ بالدماء , رجلاه مشققتان من كثر الجروح , ولكنه رغم كل هذا يسير ويكمل طريقه ويحارب الضعف بإرادته وعزيمته , يسرع قليلا لانه يريد أن يحصل على النقود قبل أن يحين الوقت المطلوب لتسلميها للمسؤول عنه .
ذهب ومد يده لكل من يراه في الطريق ولكنه لم يحصل إلا على بضعة قروش لا تكفي ثمن حبة فاكهة, فاسرع اكثر وإذا به يرى رجلا ضخما يلبس ملابس أنيقة ورائحة عطره تملئ المكان , راكبا سيارة فخمة , لو عاش ألف قرن لا يستطيع أن يجمع ثمنها, تقدم نحوه فمد يده له فطلب منه بعضا من القروش وإذا بذلك الرجل يرفضه بحدة ويركله برجله , ثم نظر إليه نظرة احتقار, ولم يكتف بذلك فقط بل وشغّل سيارته وداس عليه بكل قسوة , يا لهذا القلب! أهذا قلب كباقي القلوب أم انه صخرة تدعي أنها قلب؟!.
هاهو الطفل الذي يتسول من اجل أن يعيش هاهو لكنه يتسول من اجل أن يموت لا من اجل أن يعيش , هاهي نهايته , فقد لفظ أنفاسه الأخيرة ومات والدم يفرش الشارع , انه الان جثة هامدة ملقاة على الأرض , ربما ارتاح من هم الحياة وربما ...
لم ير احد ابتسامته, ولم يبتسم قط في حياته وها هو يبتسم الان وهو ميت , يا الهي كم غريبة هذه الدنيا!.
تلك هي النقود التي تفعل هكذا بالإنسان فترفع من شأن هذا وتقلل من شأن هذا, ولكنّ تلك النقود ما هي الا نفايات الحياة وقذارتها ولا تساوي شيئا أمام قلب طيب !.
لماذا نرى النقود كل شيء بالحياة ولا نفكر أنّ هناك من هو أغلى واثمن ؟, من الممكن أنّ الجهل سبب كل هذه النتائج المخجلة فكل البشر يركضون خلف قطع حديدية ويقتلون أرواحا ويهدمون بيوتا لاجلها وهي لا تستحق ذلك أبدا فهي مجرد جماد لا ينطق ولا يتحرك , فكيف لهذا العقل البشري أن يستغني عن الشخص الحي ويلحق باللا شيء؟!
هذه هي نهاية قصتي ولكن أرجو أن لا تكون نهاية المطاف , فاتمنى من كل شخص أن يزرع بقلبه بستانا اخضرَ يحصده حبا ودفئا, وان يجرده من الشوك السام القذر ففي النهاية لن يأخذ معه الا قلبه.